شرع الله عز وجل الجهاد والقتال في سبيله لمقاصد عظيمة، وغايات نبيلة.
منها إعزاز الدين، وتعبيد الناس لله رب العالمين، وإزالة الحواجز والقيود التي تحول بين الناس وبين الدعوة وقيام الحجة، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة.
والجهاد عبادة كغيرها من العبادات، تحتاج لكي تؤتي أكلها، ويجني العبد ثمارها ألا يقدم عليها إلا وهو في حالة من التهيؤ النفسي، والتفرغ القلبي من الشواغل والملهيات التي تحول بينه وبين أداء هذه العبادة وتحقيق مقاصدها على الوجه الأكمل، وقد قص النبي- صلى الله عليه وسلم- علينا قصة نبي من أنبياء بني إسرائيل خرج للجهاد والغزو.
وذلك في الحديث الذي أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (غزا نبي من الأنبياء، فقال لقومه: لا يتبعْني رجل ملك بُضْعَ امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن بها.
ولا أحد بنى بيوتا ولم يرفع سقوفها، ولا أحد اشترى غنما أو خَلِفاتٍ وهو ينتظر ولادها، فغزا فدنا من القرية صلاةَ العصر أو قريبا من ذلك، فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا، فحُبِسَتْ حتى فتح الله عليه، فجمع الغنائم، فجاءت - يعني النار- لتأكلها فلم تطْعَمْها،
فقال: إن فيكم غُلولا، فليبايعني من كل قبيلة رجل، فلَزِقَتْ يد رجل بيده، فقال: فيكم الغُلول، فليُبَايِعْني قبيلتك، فلَزِقَتْ يد رجلين أو ثلاثةٍ بيده، فقال: فيكم الغُلُول، فجاءوا برأسٍ مثل رأس بقرة من الذهب، فوضعوها فجاءت النار فأكلتها، ثم أحلَّ الله لنا الغنائم، رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا) .
هذه قصة نبي من أنبياء بني إسرائيل، وهو نبي الله يوشع بن نون، الذي صحب موسى عليه السلام في حياته، وسار معه إلى الخضر، في القصة المعروفة في سورة الكهف، وبعد وفاة موسى عليه السلام أوحى الله إلى يوشع بن نون، واستخلفه على بني إسرائيل، وفتح على يده الأرض المقدسة.
وفي يوم من الأيام خرج هذا النبي غازيا لفتح إحدى القرى، وقبل خروجه حرص على أن لا يتبعه في غزوته تلك إلا من تفرغ من جميع الشواغل، والارتباطات الدنيوية التي من شأنها أن تقلق البال وتكدر الخاطر، وتعيق عن الجهاد والتضحية في سبيل الله.
فاستثنى من جيشه ثلاثة أصناف من الناس: الأول رجل عقد نكاحه على امرأة ولم يدخل بها، والثاني: رجل مشغول ببناء لم يكمله، والثالث رجل اشترى غنما أو نوقا حوامل وهو ينتظر ولادها، فإن الذي انشغل بهذه الأمور وتعلق قلبه بها لن يكون عنده استعداد لأن يثبت في أرض المعركة ويتحمل تبعات القتال، بل ربما كان سببا للفشل والهزيمة.
ولما خرج متوجها نحو القرية، دنا منها وقت صلاة العصر أو قريباً منه، وكان الوقت المتبقي إلى الغروب لا يتسع للقتال، فقد يدخل عليه الليل قبل أن ينهي مهمته، واليوم يوم جمعة، وبدخول الليل يحرم القتال على بني إسرائيل الذين حرم عليهم الاعتداء في السبت.
وعندها توجه يوشع إلى الشمس مخاطباً لها بقوله: إنك مأمورة وأنا مأمور، ثم دعا الله عز وجل أن يحبسها عليهم، فأخر الله غروبها وحبسها حتى تم له ما أراد وفتح الله عليه.
وقد كانت الغنائم محرمة على الأمم قبلنا، فكانت تجمع كلها في نهاية المعركة في مكان واحد، ثم تنزل نار من السماء، فتأكلها جميعا، وهي علامة قبول الله لتلك الغنائم، فإن غل أحدٌ منها شيئاً لم تأكلها النار، فجمعت الغنائم وجاءت النار فلم تأكل منها شيئاً، فعرف نبي الله يوشع أن هنالك غلولاً وأخبر جيشه بذلك.
ثم أمر بأن يبايعه من كل قبيلة رجل، فلصقت يده بيد رجل من القبيلة التي فيها الغلول، فعرف أن الغالِّين هم من هذه القبيلة، وطلب أن يبايعه كل فرد من أفرادها على حدة، فلصقت يده بيد رجلين أو ثلاثة وكانوا هم أصحاب الغلول، فأمرهم بإحضار ما أخذوه، فجاءوا بقطعة كبيرة من الذهب على شكل رأس بقرة، فلما وضعت مع الغنائم جاءت النار فأكلتها.
وقد منَّ الله عز وجل على هذه الأمة، فأحل لها الغنائم التي كانت محرمة على من قبلها من الأمم، وستر عنها أمر الغلول، وفضيحة عدم القبول، وهو من خصائص أمة محمد عليه الصلاة والسلام.
إن هذه القصة تبين لنا جانباً من جوانب الإعجاز الإلهي، والقدرة الربانية وأنه سبحانه هو المتصرف في هذا الكون وبيده الملك والخلق والتدبير، وبالتالي فهو المستحق للعبادة وحده، كما أنها تظهر تأييد الله لرسله، وإعانته لهم على القيام بما أوكل إليهم من مهام.
ومن خلالها يتبين لنا أن المهمات الكبرى، والقضايا المصيرية التى يرتبط بها عز الأمة ونصرها، ينبغي ألا تفوَّض إلا لحازم فارغِ القلب، لم تأسره الدنيا، ولم يشغله المعاش، ولم تلهه الشهوات، لأن المتعلق بأمور الدنيا، وشؤون الحياة والمعاش، قد يضعف عزمه عن المواجهة والإقدام، والقلب إذا تشعبت به الهموم ضعُف عمل الجوارح.
وإذا اجتمع قوي عملها وتوحد الهم، وهو معنى جليل يحتاجه العبد في سيره إلى الله تعالى، فهو بحاجة إلى يوحد همومه ويجمع قلبه لكي يصح سيره، وتتضح وجهته، وإلا تشعبت به الهموم ولم يبق للآخرة منها شيء.
وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم – إلى هذا المعنى في قوله: (من جعل الهموم هماً واحداً هم المعاد، كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا، لم يبال الله في أي أوديته هلك) رواه ابن ماجه.
وقوله: (من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له) رواه الترمذي.
المصدر: موقع إسلام ويب